قلم : أمين سامي إن جائحة covid-19 خلفت وخلقت تغييرات عدة سواء على مستوى العلاقات الدولية ، أو على مستوى التدفقات المالية ، أو التغييرات الجيو- سياسية للدول بالإضافة إلى تحولات اجتماعية واقتصادية مهمة و كبيرة أجبرت العديد من الدول و المسؤولين وحتى الأفراد العاديين على تقبلها و التعايش معها لأنها أصبحت واقعا لا مفر منه . إن هاته الأزمة جعلتنا نستشعر بأهمية التعليم و الصحة والبحث العلمي لأنهم في الأساس الركيزة الأساسية للتطور و التقدم . إن تطوير الرأسمال البشري و تثمينه يعتبر مرتكزا ومقوما من مقومات التنمية البشرية كما أشار إليها تقرير البنك الدولي في كتابه ” المغرب في أفق 2040 ، الاستثمار في الرأسمال اللامادي لتسريع الإقلاع الاقتصادي ” . وفي هذا الصدد يجب أن نقر بأن المغرب تعامل بذكاء و استباقية مع جائحة كورونا بفضل تعليمات صاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله واتخذ مبادرات هامة و جريئة من أجل الحد من تفشي الوباء. إلا أنه يجب ألا ننسى أن العالم في تطور متسارع سواء لا من الناحية الديمغرافية أو من ناحية تطور التكنولوجيات الحديثة أو تطور مستوى اللامركزية و هذا يحيلنا على إعادة النظر في التخطيط العمراني للمدن المستقبلية التي نريد الولوج إليها . فمعظم الدراسات السابقة ركزت بشكل خاص على المدن الذكية و المدن الايكولوجية و اليوم و نحن نعيش أزمة كورونا وجب أن نفتح الباب لطرح التساؤل حول نموذج جديد للمدن الا وهو المدن الصحية. فالمقصود بالمدينة الصحية ؟ و ما هي مكونات و مقومات المدينة الصحية ؟ و ما هي المبادئ التي يجب أن تقوم عليها المدينة الصحية ؟ وهل هناك علاقة ترابطية بين المدينة الصحية و المدينة الايكولوجية و المدينة الصحية ؟ هل يمكن القول أن المدينة الذكية في شكلها الحديث بعد أزمة كورونا يجب أن تتوفر على مدينة صحية و مدينة ايكولوجية و مدينة تعليمية تكنولوجية ؟ … كل هاته التساؤلات و غيرها يجب التفكير فيها جيدا وفتح باب النقاش لتأسيس مدينة صحية متكاملة و مندمجة مع وسطها الاجتماعي وبالتالي فقبل الإجابة على التساؤلات أو فتح مجال للنقاش فيها وجب الإجابة على السؤال الأهم وهو لماذا نؤسس و نخطط لمدينة صحية ؟ و الجواب هناك 03 عوامل تدفعنا للتفكير بشكل جدي في تأسيس هذا النوع من المدن لاعتبارات عدة أهمها : 1. الانفجار الديمغرافي و القدرة الاستيعابية الحالية للمدن 2. التطور التكنواوجي في خدمة المجال الصحي 3. اللامركزية في استخدام الخدمات و تطوير المدن الصحية 1. الانفجار الديمغرافي و القدرة الاستيعابية الحالية للمدن : يتضح من خلال تقديرات الأمم المتحدة أن عدد سكان العالم سيصل إلى 8.5 مليار نسمة مع حلول عام 2030 وبحلول عام 2050 سيصل إلى 9.7 مليار نسمة ، هذا على صعيد المستوى العالمي ، أما على مستوى منطقة الشرق الأوسط و شمال إفريقيا فهي تعرف زيادة سنوية تقدر ب 1.7% ، حيث كان يشكل عدد سكان المنطقة في سنة 2000 حوالي 5.5% من سكان العالم . وهذا يتبين جليا من خلال أن عدد سكان المنطقة العربية في عام 2000 كان حوالي 338 مليون نسمة في حين بحلول عام 2050 سيتضاعف العدد للضعف ليصل إلى 724 مليون نسمة. أما في المغرب سيعرف نموا ثانويا نسبيا في تعداده السكاني بنسبة أقل من 20 % بحلول عام 2050. هذا الارتفاع الذي ستشهده جميع الدول العربية باستثناء لبنان التي ستعرف انكماشا في تعدادها السكاني، و بالتالي هذا الارتفاع راجع إلى الزيادة الطبيعية (عدد المواليد يفوق عدد الوفيات) بالإضافة إلى الهجرة الإيجابية التي ستلعب دورا في زيادة نسبة النمو السكاني. إن هذا الانفجار الديمغرافي يجعلنا أن نفكر مليا في إيجاد حلول مستدامة تخفف من الأزمة واتخاذ إجراءات استباقية وإستراتيجية فبالرجوع إلى تقرير التنمية الإنسانية العربية لسنة 2016 يتضح أن نسبة التحضر سترتفع على مستوى منطقة الشرق الأوسط و شمال إفريقيا حيث كانت في سنة 2015 تتجلى في 57% وستنتقل إلى 75% بحلول عام 2050، وهذا سيؤثر بشكل جلي على التخطيط المستقبلي للمدن. إن القدرة الاستيعابية الحالية للمدن حرجة جدا نتيجة لغياب عقلاني ومهيكل للتخطيط العمراني بشكل فعال و بالتالي مع تزايد التعداد السكاني تتزايد احتياجات الناس للسكن و للأمن الغذائي و للأمن المائي و الطاقي و العناية الصحية و العديد من الخدمات التي يحتاجها الإنسان في حياته اليومية . وبالتالي السؤال الذي يطرح نفسه هل لدينا تصور شمولي و استشرافي و استباقي لاحتواء هذا الانفجار الديمغرافي قبل وقوعه ؟ الجواب ممكن احتواء الوضع وإنشاء مدن صحية قادرة على تغطية جميع الاحتياجات، وفي هذا الإطار جاء خطاب جلالة الملك محمد السادس نصره الله عندما نادى بخلق طبقة متوسطة في الوسط القروي وخلق القيمة المضافة من خلال مشاريع مدرة للدخل وتشجيع الاستثمار في الوسط القروي من أجل التخفيف من وطأة الهجرة نحو المدن. إن تهيئة الأرياف للحد من النزوح نحو المدن سيوفر فرصا مواتية للسيطرة على الأوبئة و الأمراض مستقبلا، وبالتالي الاستمرار في الهجرة نحو المدن سيؤدي حتما إلى تفاقم الأمراض وصعوبة تطبيق سياسات الوقاية من الأخطار خاصة الصحية و التدخل عند وقوعها. فبالرجوع إلى مختصرات المندوبية السامية للتخطيط بالمغرب عدد 11 – 13 دجنبر 2019 حول تصورات المغاربة حول الحماية الاجتماعية خاصة جودة الخدمات الصحية 2016 صرح عدد من المستجوبين على المستوى الوطني أن 44.3% خدمات ضعيفة ، و 38.5 % خدمات متوسطة في حين اعتبر 17.3 %الخدمات الصحية جيدة (حسب مكان الإقامة). بالنسبة للوسط القروي جاءت النتيجة على الشكل التالي : 42.7% خدمات ضعيفة و خدمات صحية متوسطة بنسبة 37 % في حين اعتبر 20.2% خدمات جيدة ، أما بالنسبة للوسط الحضري صرح 45.2% خدمات ضعيفة و 39.3% خدمات متوسطة و 15.5% خدمات جيدة حسب مكان الإقامة طبعا. وبالتالي يظهر من خلال التصريحات أن أغلب المستجوبين تعتبر جودة الخدمات الصحية ضعيفة أو متوسطة لا تلبي احتياجاتهم و بالرجوع إلى تقرير منتدى الوطنيين حول النموذج التنموي الصادر بتاريخ 04.07.2020 وانطلاقا من استقصاء للرأي قام به حول : أي من القضايا هي الأهم بالنسبة لك في المغرب حاليا ؟ جاءت النتيجة على الشكل التالي : التعليم 72% ، الصحة 66% ، الأمن الوطني 31% و اخيرا التنمية الاقتصادية 22% وتعتبر هاته هي القضايا الأهم والأبرز بالنسبة لمعظم المستقصين ، و بالتالي هذا يؤكد ما نشرته المندوبية السامية للتخطيط حول عدم رضا جودة الخدمات الصحية كما صرح بها المستجوبون وبالتالي تصدر نسبة 66% تبرز بوضوح عدم الرضا عن الخدمات المقدمة ويجب إعادة النظر فيها و إعادة النظر في السياسة الصحية بالمغرب بصفة عامة لان قطاع الصحة قطاع حيوي وركيزة أساسية من ركائز التنمية الاقتصادية وهذا يجعلنا ويدفعنا للتفكير مليا في إنشاء أقطاب صحية جهوية و إنشاء مستشفيات متنقلة على طول السنة و تشجيع الاستثمار في القطاع الصحي من أجل تطوير جودة خدماته . لأن المستشفيات الحالية لا يمكنها استيعاب الانفجار الديمغرافي الذي سيحصل مستقبلا ، كما أن لحجم المدينة علاقة وطيدة مع انتشار العدوى و الأمراض و الأوبئة مستقبلا. وبالتالي تنمية القرى و المراكز الحضرية الأقل كثافة سكانية سيساعد على التحكم و السيطرة على الأوبئة و الأمراض و بالتالي إمكانية عزلها بسهولة ومراقبتها بشكل أفضل .
. التطور التكنولوجي في خدمة المجال الصحي : إن جائحة كورونا فرضت على العديد من المدن إعادة النظر في سياستها العمرانية و إعادة النظر في إدماج التكنولوجيا و الاستفادة من التطور التكنولوجي الحاصل في الهندسة العمرانية للتخطيط مستقبلا للمدن بشكل صحيح. إن ما تمت ملاحظته هو أن التطور التكنولوجي و الصناعي اتجه في خدمة المدن الصحية و بالتالي لعبت المنصات الرقمية دورا مهما في التحسيس و التوعية بالاضافة إلى وسائل الإعلام الرسمية و مواقع التواصل الاجتماعي. وبالتالي أصبحت اللقاءات و الندوات و المؤتمرات عن بعد بالإضافة إلى التسوق الالكتروني الذي عرف انتعاشا قويا خلال فترة الحجر الصحي و بالتالي قلت الحركة الجسدية وهذا يجعلنا نستشعر أن مستقبلا ستعوض المعاملات الالكترونية الحركة الجسدية و بالمقابل يجعلنا نطرح عدة تساؤلات لتطوير المعاملات الالكترونية بالمغرب خاصة أن سوق التجارة الالكترونية عرف منذ 2018 انتعاشا ملحوظا في هذا المجال. 3. اللامركزية في استخدام الخدمات و تطوير المدن الصحية : إن التخطيط المستقبلي للمدن مبني على نظام اللامركزية ، وفي هذا الإطار قام المغرب بخطوات مهمة في مجال إرساء نظام اللامركزية و تفعيلها على أرض الواقع بفضل تعليمات و توجيهات صاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله ، و في هذا الصدد يجب استخدام نظام اللامركزية داخل المدن من خلال تقسيم المدينة إلى عدة أقسام أو أقطاب تكون فيه الخدمات و الأسواق ضمن مسافات متباعدة ومطروقة للراجلين مما يسمح في ضمان صحة جيدة للسكان و الزائرين و بالتالي فكلما تم توزيع هاته الخدمات بشكل مناسب و منظم وعقلاني ، كلما ساهمنا في تعزيز مظاهر الصحة العامة وتقوية الروابط الاجتماعية و في هذا الإطار يجب على الوكالات الحضرية للمدن اعتماد مقاربة تشاركية مع المواطنين من أجل المساهمة في التخطيط المستقبلي لمدنهم بشكل يضمن لهم كرامة ورفاهية العيش في زمن الأمراض والأوبئة.