تُعد المياه العادمة من بين مصادر التلوث البيئي، ويعني ورش توسيع نطاق معالجتها لتصير قابلة للاستغلال، الذي انخرط فيه المغرب، ضرب عصفورين بحجر واحد: تحييد خطرها على البيئة، من جهة، وتحويلها إلى عنصر إيجابي لمواجهة تداعيات التغيرات المناخية، من خلال استغلالها في سقي المساحات الخضراء المهددة بالانحسار بسبب توالي سنوات الجفاف.
ويعكس حجم المياه العادمة التي تلفظها البيوت والمصانع في المغرب مدى خطرها على البيئة، إذ يرتفع بوتيرة سريعة، منتقلا من 48 مليون متر مكعب عام 1960، إلى 900 مليون متر مكعب عام 2020، ويُتوقع أن يرتفع حجمها إلى مليار و70 مليون متر مكعب عام 2030.
ورغم أن حجم المياه العادمة في المغرب يُتوقع أن يزيد عن مليار متر مكعب عام 2030 فإن نسبة معالجتها مازالت ضعيفة، إذ لن تتعدى 32 في المائة فقط في أفق 2030، حسب معطيات تضمنتها ورقة بحثية أنجزها يوسف بروزين، أستاذ باحث في معهد الحسن الثاني للزراعة والبيطرة.
وعموما فإن معالجة مياه الصرف الصحي في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا ضعيفة، فرغم أن حجم إنتاجها يصل إلى مليار متر مكعب سنويا، فإن إعادة استعمالها لا يتجاوز 15 في المائة، وتُسجلّ أعلى نسبة استخدام في الأردن بـ94 في المائة، بسبب حاجتها الماسة إليها نظرا لقلة مواردها المائية.
ويضع المكتب الوطني للكهرباء والماء الصالح للشرب تصفية المياه العادمة ضمن أولويات اشتغاله في مجال التطهير السائل، حيث يتوفر المغرب حاليا على 126 محطة لتصفية مياه الصرف الصحي، بينما لم يكن عدد المحطات المتوفرة سنة 2005 يتعدى 21 محطة، فيما كانت نسبة المياه المعالجة في حدود 8 في المائة.
الاهتمام الذي أصبح المغرب يوليه لتصفية المياه العادمة يعكسه عدد محطات التصفية التي يُنشئها المكتب الوطني للكهرباء والماء الصالح للشرب، ففي سنة 2021 وحدها تم إنشاء 11 محطة، منها أربع محطات خضعت للتوسيع.
وبدأ اهتمام المغرب باحتواء الانعكاسات الصحية والبيئية والاقتصادية للمياه العادمة منذ سنة 2005، عبر برنامج تقوده الوزارة الوصية على قطاع البيئة، بشراكة مع وزارة الداخلية، يروم تحقيق عدد من الأهداف، منها إعادة استعمال المياه العادمة المطهرة بنسبة 100 في المائة في أفق 2030.
وإذا كانت معالجة المياه العادمة تمكّن من إعادة إحياء الأرض، عبر استغلالها في سقي المساحات الخضراء، في انتظار استغلالها في الريّ الزراعي، وبالتالي تقليص استهلاك مياه الشرب، فإن عدم معالجتها يرخي بظلال الخطر على البيئة، لاسيَما أنها في الغالب أُحادية التجميع في المغرب، حيث تمرّ في قناة واحدة تختلط فيها مياه الصرف الصحي القادمة من البيوت، وتلك التي تلفظها المصانع، وهي الأكثر تلويثا للبيئة، لكونها تحتوي على مواد كيماوية سامة.
وأوضحت أميمة خليل الفن، الباحثة المتخصصة في الهندسة البيئية والتنمية المستدامة، أن المياه العادمة التي تلفظها المصانع تحتوي على كميات عالية من المواد الكيماوية، إذا لم تخضع للمعالجة الأولية داخل المصانع، ما يجعلها تشكل خطرا على البيئة، لاسيما الفضاء البحري، أو الوديان، التي هي المصب النهائي لمياه الصرف الصحي، حيث تؤدي إلى القضاء على التنوع البيولوجي فيها، بسبب موت الكائنات الحية نتيجة التسمم.
وإذا كان الهدف الأساسي الذي دفع المغرب إلى التعجيل بالاستثمار في معالجة المياه العادمة، واستغلالها لسقي المساحات الخضراء، هو تقليص استهلاك الماء الشروب، فإن المملكة ستجني فوائد أخرى على صعيد السلامة البيئية، وعلى صعيد توفير الطاقة، والأسمدة أيضا.
وبحسب المعطيات الواردة في الورقة البحثية التي أعدها يوسف بروزين فإن الإنتاج الحالي من المياه العادمة في المغرب يكفي لريّ أكثر من 2.7 مليون هكتار من الأراضي الفلاحية في المملكة، على افتراض أن الهكتار الواحد يستهلك نحو 8 آلاف متر مكعب من الماء، كما أنها توفر استخداما مجانيا للأسمدة بنحو 322 كيلوغراما من النتروجين للهكتار في السنة.
وفي المقابل فإن عدم معالجة المياه العادمة، لاسيما القادمة من المصانع، بطريقة جيدة، لا يؤدي فقط إلى الإضرار بالتنوع البيولوجي في البحار والوديان، بل يتعدى ذلك إلى تلويث المياه الجوفية، وتملُّح التربة، والتأثير سلبا على البيئة بشكل عام، كما أوضح يوسف بروزين.
هذا المعطى أكدته كذلك أميمة خليل الفن بقولها: “يجب فرض مراقبة صارمة على معالجة مياه الصرف الصحي التي تلفظها المصانع، من أجل معالجتها في محطات التصفية الخاصة بها، قبل ضخها في قنوات الصرف الصحي، حتى تكون مستجيبة لمعايير منظمة الصحة العالمية، وإلا فإنها لن تؤثر فقط على المنظومة الإحيائية، بل إن تسربها إلى التربة قد يضر بالفرشة المائية، خاصة في المناطق التي تكون فيها المياه الجوفية قريبة من سطح الأرض…
في هذا الإطار، حذّرت منظمة الصحة العالمية من الخطر الذي تشكله المياه العادمة على صحة الإنسان، مشيرة، في تقرير أصدرته في شهر مارس 2022، حول مياه الشرب، إلى أن “تلوث مياه الشرب بالميكروبات نتيجة لتلوثها بالبراز يمثّل أكبر خطر تتعرض له مأمونية مياه الشرب، ويسبب انتقال أمراض مثل الإسهال والكوليرا والزحار والتيفود وشلل الأطفال”.
وتُضفي انعكاسات التغيرات المناخية مزيدا من الاستعجال على توسيع نطاق معالجة المياه العادمة، للحد من تأثيراتها على البيئة، وهو ما أكده تقرير المهمة الاستطلاعية المؤقتة للوقوف على وضعية مصب نهر أم الربيع، التي شكلتها لجنة البنيات الأساسية والطاقة والمعادن بمجلس النواب، وقدمته بتاريخ 17 يناير الماضي، إذ حث على الإسراع في إنجاز محطة لمعالجة المياه العادمة بأزمور، معتبرا أن أي تأخر لهذا المشروع سيؤدي إلى تفاقم نسبة تلوث نهر أم الربيع، لاسيما في ظل الجفاف وندرة المياه.
ورغم تزايد عدد محطات معالجة المياه العادمة في المغرب، والاعتماد الكلي عليها في سقي المساحات الخضراء في بعض المدن، كالعاصمة الرباط، فإن العديد من محطات المعالجة تعاني من سوء التشغيل والصيانة، بحسب يوسف بروزين، معتبرا أن التحدي المطروح حاليا هو “جعل التقنيات المبتكرة فعالة ومقبولة اجتماعيا ومستدامة بيئيا”.
وتُعتبر الكلفة المالية لتصفية المياه العادمة أيضا من التحديات التي تواجه هذا الورش الذي انخرط فيه المغرب، نظرا لما تتطلبه من تقنيات وتكنولوجيا حديثة، “لكنّ هذه الكلفة تبقى أقلّ بكثير من كلفة التدهور البيئي، الذي يكلف بلدنا 4 في المائة من الناتج الداخلي الخام”، بحسب تعبير أميمة خليل الفن.