بعد البرلمان والحكومة اللذين قام الرئيس التونسي قيس سعيّد بحلهما (بعد استشارة رئيسيهما حسب تصريح سابق له) و«الإجراءات الاستثنائية» التي قام بتمديدها من دون أفق معلوم لانتهائها، وبعد حملاته العنيفة على الأحزاب والقوى السياسية، وعلى الذين تظاهروا أو اعترضوا على قراراته، والضغوط التي يمارسها حاليا على القضاء، وجد سعيّد، أخيرا، عدوا وجوديا له ممثلا في الرئيس السابق المنصف المرزوقي.
الشعلة التي قدحت زناد تصعيد سعيّد ضد المرزوقي تمثّلت بموقف الأخير من قرار قمة الدول الفرانكفونية، التي كانت مقررة للانعقاد بدورتها الثامنة عشرة في 20 و21 من هذا الشهر في تونس، وتأجلت إلى العام المقبل، فبعد اتهام أطراف للرئيس الأسبق بالمسؤولية عن ذلك القرار، نفى المرزوقي ذلك لكنه علّق أن «أي دولة ديمقراطية تقبل بحضور هذا المؤتمر يعني أنها تؤيد الانقلاب وهذا لا يجوز. نحن نعتبر هذا خيانة وطعنة في ظهر الديمقراطية التونسية».
الواضح أن سعيّد اعتبر الأمر شخصيا فقام بتجريد المرزوقي من جوازه الدبلوماسي لأنه، على حد قوله، «ذهب إلى الخارج يستجديه لضرب المصالح التونسية» ثم طلب بعد ذلك من وزيرة العدل في أول اجتماع للحكومة التي أمر بتشكيلها، بأن «تفتح تحقيقا قضائيا في هذه المسألة لأنه لا مجال للتآمر على أمن الدولة الداخلي والخارجي» فكان أن أصدرت محكمة ابتدائية «بطاقة جلب دولية» تتهمه بالخيانة.
دافع المرزوقي عن سجلّه الرئاسي فقال إنه حمى الحقوق والحريات، وحافظ على المال العام، وسلّح الجيش، وأمر الأمن الرئاسي بحماية خصومه، واسترجع قسما من الأموال المنهوبة، وحارب الفساد قولا وفعلا، وأنه كان له شرف ختم أول دستور ديمقراطي في تاريخ تونس، ورد على هجوم سعيّد بالقول إنه «الدكتاتور الثالث الذي ابتليت به تونس يتجاسر على اتهامي بالخيانة».
كما ردّ على اتهامه بالخيانة والتعامل مع «الخارج» بالقول إن «لا خائن إلا من حنث بقسمه وانقلب على الدستور الذي أوصله للحكم، وورط البلاد في أزمة غير مسبوقة، وجعل من بلادنا مرتعا لبلدان محور الشر» وقام حزبه «حراك تونس الإرادة» بتقديم شكاية باسم المرزوقي ضد قاضي التحقيق، كما أطلق سياسيون وحقوقيون حملة تضامن معه على مواقع التواصل.
إحدى النقاط التي أثارها المعلقون على هذا الحدث أن السلطة التنفيذية، ممثلة بسعيّد، تدخّلت في سير القضاء، مع إصدار الرئيس الحالي، الذي جمع السلطات والصلاحيات والمناصب، «تعليمات متلفزة» بمطاردة خصم سياسي له «بسبب رأي أبداه».
خلال لقائه الأول مع الصحافة الأجنبية، في الزيارة التي قامت بها فيفيان يي، مراسلة صحيفة «نيويورك تايمز» الأمريكية واثنان من زملائها، وبعد خمسة أيام من اتخاذ قراره بتجميد البرلمان وحل الحكومة، أعطى سعيّد فكرة واضحة عن أسلوبه، فمنع الصحافيين الأجانب المذهولين من الحوار معه أو سؤاله أي سؤال، وأخذ بتلاوة محاضرة طويلة عليها بدأها بالقول: «مرحبا بكم في بلد الحقوق والحريات وفي بلد الدستور» مشيرا إلى أن «حرية التعبير مكفولة» ثم قرأ عليها، بالفرنسية، مقاطع من الدستور الأمريكي، وحين بدأ أحد الصحافيين بالترجمة أمره رجال الرئيس بالتوقف!
تشكل الوقائع الأخيرة ذروة كاشفة عن الأوضاع السياسية التي وصلت إليها تونس في ظل «الإجراءات الاستثنائية» المستمرة للرئيس الحالي، حيث شهدنا لغة تخوينية ضد رئيس سابق مشهود له بالتاريخ النضالي الطويل لمأسسة الديمقراطية في بلاده، والدفاع عن حريات التونسيين وحقوقهم، ووصل الأمر إلى حد سحب جوازه الدبلوماسي وإصدار بطاقة جلب دولية ضده، وإلى كونها قرارات مسيئة لتونس ورئيسها الحالي، فإنها مؤشر على تدهور غير مقبول في أحوال تونس.