كانت المرة الثانية التي تنزل فيها دبابات الجيش إلى شوارع الدار البيضاء من أجل القضاء على احتجاج رأت فيه الدولة تهديداً لمصالحها..فبعد أحداث 23 مارس 1965 التي راح ضحيتها المئات ممّن تظاهروا ضد سياسات تعليمية لوزارة التربية الوطنية، أتت سنة 1981، وبالضبط يوم العشرين من يونيو، ليفتح جرحاً جديداً في الذاكرة المغربية، بعدما اخترق رصاص الجيش وقوات الأمن صدور عدد من ممّن شاركوا في إضراب هزّ أركان الاقتصاد المغربي.
انتفاضة الكوميرا كما أسماها وزير الداخلية الراحل إدريس البصري كنوع من التهكم على ضحاياها، الإضراب الناجح كما اعتبرته قيادات حزبية يسارية ونقابية، والثورة التي لم تنجح كما وصفها بعض المحسوبين على اليسار الراديكالي. تتعدد التسميات، لكن يبقى يوم 20 يونيو 1981، حدثاً سالت فيه دماء مغربية بغزارة، بعدما احتج أصحابها على الزيادات المرتفعة في الأسعار.
كَثرت الأسباب التي أدت إلى إضراب دعت إليه الكونفدرالية الديمقراطية للشغل في اليوم المذكور، لكنها تبقى مترابطة بينها بشكل كبير، فالمغرب كان يعيش في تلك الفترة أزمة اقتصادية خانقة بعد تراجع إنتاجية الفوسفاط وانخفاض مبيعاته في السوق العالمية، كما سجل الميزان التجاري عجزاً واضحاً، خاصة في ظل ارتفاع تكاليف حرب الصحراء ضد جبهة البوليساريو.
وزاد تأسيس الكونفدرالية الديمقراطية للشغل كمركزية نقابية جديدة سنة 1978 من لهيب المواجهات النقابية مع الدولة، فقد اعتُقل المئات في إضراب لقطاعي الصحة والتعليم سنة 1979، ورفعت الحكومة الأسعار خلال هذا العام والذي تلاه، لتراسل الكونفدرالية الحكومة بمذكرات تنادي بضرورة الرفع من الأجور واحترام الحريات النقابية، إلا أن الحكومة أجابت الكونفدرالية ببيان شهير كان قطرة أفاضت كأس صبر العديد من المواطنين.
فقد بثت وكالة المغرب العربي للأنباء بيانا للحكومة في 28 ماي 1981 أشارت فيه إلى زيادة جديدة في الأسعار بشكل أكبر من السابق: الدقيق 40%، السكر 50%، الزيت 28%، الحليب 14%، الزبدة 76%. وإذا ما أضفنا هاته النسب إلى زيادات 1979 و1980، فيصل المعدل إلى: السكر 112%، الزيت 107%، الحليب 200 %، الزبدة 246%، الدقيق 185%.
ورغم أن مركزية نقابية أخرى هي الاتحاد المغربي للشغل دعت إلى إضراب جهوي بالدار البيضاء يوم 18 يونيو، إلا أن يوم السبت 20 يونيو الذي حددته الكونفدرالية كإضراب عام في مدن البلاد، كان أكثر قوة، حيث استجابت فئة عريضة من المواطنين، وقاطعوا وظائفهم وأعمالهم، وأغلق التجار دكاكينهم، فظهرت مدن مغربية عديدة كأنها “مدن أشباح” أو مساحات ضربها الطاعون.
الاستجابة الكبيرة لدعوة “ك.د.ش” للإضراب أثار حنق السلطات، فقد فشل أعوان السلطة في ثني المواطنين عن المشاركة في الإضراب رغم توزيعهم لمناشير تحذر من ذلك، ولم تستطع قوات الأمن والجيش المنتشرة في المدن ترهيب المضربين، كما لم ينجح حصار المقر المركزي والمكاتب الجهوية ل”ك.د.ش” واعتقال قيادييها بمن فيهم نوبير الأموي في إنهاء الإضراب.
بدأت أعمال العنف صباح السبت، السبب كما تردّد في مجموعة من وسائل الإعلام، هو هجوم بعض الشباب بالدار البيضاء على حافلة لرجال الأمن. صدرت الأوامر بالاعتقال والتعنيف والاحتجاز في المقاطعات، وبعدها بدأ إطلاق الرصاص، حيث تم تطويق غالبية أحياء العاصمة الاقتصادية التي كانت المسرح الأكبر لعمليات القتل الجماعي.
امتلأت أرضية أحياء من قبيل سيدي البرنوصي والحي المحمدي وعين السبع وابن امسيك وحي الفرح بدماء المواطنين، فرصاص الجيش والأمن كان يستهدف الرأس والصدر والقلب، كي لا تُمنح أية فرصة للضحية من أجل النجاة، خاصة وأن المضربين كانوا قد خرجوا إلى الشارع على شكل مجموعات احتجاجاً على ضغط السلطة عليهم من أجل العودة إلى عملهم.
وحسب ما ذكره شهود عيان، فقد شاركت الدبابات ومروحيتان في عمليات القتل التي استمرت حتى ظهيرة يوم الأحد 21 يونيو. الحصيلة كانت مروعة، رغم محاولة السلطات رمي عددٍ من القتلى في مقابر جماعية، هناك من قال إن بعضهم دُفن وهو لا يزال على قيد الحياة.
وصل عدد المعتقلين إلى الآلاف وهناك من حُكم بعقوبات حسبية طويلة. أما الضحايا فقد تباينت أرقامهم، فالسلطة قالت إنها لا تتجاوز 66 ممّن وصفتهم بالمشاغبين، متحدثة على لسان البصري أن الجيش لم يتدخل وأن الدولة حريصة على احترام الحريات النقابية، بينما أفادت جمعيات حقوقية أن العدد تجاوز 600 قتيل. برّرت الدولة تدخلها بوجود عناصر موالية للخارج تحاول التشويش على لقاء للمغرب في مؤتمر نيروبي حول قضية الصحراء، بينما اعتبرت النقابة ما وقع مجزرة حقيقة في حق المغاربة العزل ضد نجاح الإضراب.
لم يتم تشكيل لجنة لتقصي الحقائق رغم مطالبة المعارضة الاتحادية بذلك، وتم منع وسائل الإعلام الوطنية والدولية من تغطية الحدث، وحتى جهود هيئة الإنصاف والمصالحة، بعد سنوات من الواقعة، لم تحل الكثير من أسرار هذا الملف.
في كل مرة تعلن الحكومة المغربية عن قرار رفع الأسعار، يتذكر الكثير من المغاربة ذلك اليوم المشؤوم الذي أريقت فيه الدماء في صفحة لم تطوَ بعد، ولا زالت تحفل بكثير من النقاشات سواء في بعض وسائل الإعلام المغربية أو في الشبكات الاجتماعية، أو حتى في الميدان السينمائي الذي عرف إخراج فيلم يتحدث عن الواقعة. ف20 يونيو 1981 كان أحد أكثر أيام سنوات الرصاص سواداً، ودليلاً قوياً على وضعية حقوق الإنسان السيئة في عقود خطيرة من تاريخ المغرب الحديث.
منقول عن هسبريس – إسماعيل عزام