بقلم: عبد الجليل صدقي*
كان لي الشرف يوم 25 غشت 2022 ان صاحبت صديقي محمد الطيب نافع في زيارة لتقديم العزاء لعائلة رفيق دربه المرحوم مصطفى بحران. هو لقاء وفاء وزيارة تعزية لم ار لهما مثيلا. لنبدأ الحكاية: فمن هو الطيب نافع ومن هو مصطفى بحران؟ هما صديقان ورفيقا الدرب في النضال الديمقراطي، هما أيضا زملاء بالعمل حيث كانا يشتغلان بالمكتب الوطني للكهرباء في السنوات الاولى بعد الاستقلال، جمع بينهما العمل النقابي والدفاع عن حقوق العمال ولكن اساسا الدفاع عن الديمقراطية والعدالة الاجتماعية بكل مسؤولية وروح وطنية والتي ترسخت لديهما وهما يافعين بانخراطهما مع الحركة الوطنية من أجل الاستقلال؛ أيضا جمعت بينهم هواية القنص وأشياء أخرى. شاءت الأقدار وبإرادتهم ان ينخرطا في العمل النقابي الجاد، لكن سرعان ما تمت محاولة محاربتهما من طرف القيادة البيروقراطية داخل الاتحاد المغربي للشغل. كانت البدايات الاولى لهاته الحرب في سنة 1962 و ذلك بعد ما قرروا بمعية مناضلين اخرين خوض وانجاح الاضراب العام من اجل تحقيق مطالب عمال قطاع الكهرباء وذلك ضدا على تكالب القيادة البيروقراطية آنذاك والتي حاولت عبثا ان تلتف على نجاحاتهم وتفاوض بانتهازية ضدا على مصالح الطبقة العاملة، الأمر الذي دفع الطيب نافع ورفيقه المرحوم مصطفى بحران بمعية ثلة من المناضلين ومن حولهم العمال الكهربائيين الى التصدي للقيادة البيروقراطية للاتحاد المغربي للشغل انداك الى ان تحققت جميع المطالب وكان من اهمها الزيادة في الاجور بقيمة 30 في المائة و توفير السكن الاجتماعي وتعويضات اخرى استفاد من خلالها، هو نفسه، أحد زعماء البيروقراطية النقابية الموالية للإدارة والمخزن وبشكل انتهازي وهو الذي كان ضد الاضراب، من اكبر سكن عبارة عن فيلا بالبيضاء.
صارت الامور على ذلك الشأن وتطورت مرورا بأحداث مارس 1965 حيث بعد خروج الشهيد عمر بن جلون من السجن وتحت اشرافه شكل محمد الطيب نافع لجنة وطنية داخلية بقطاع الكهرباء من اجل الدفاع عن الديمقراطية الداخلية بالاتحاد المغربي للشغل ومحاربة القيادة البيروقراطية والانتهازية وكانت تتشكل من 16 عضو، شاءت الاقدار ان يكون من بينهم الفقيد مصطفى بحران. فتمت محاربتهم من طرف البرجوازية النقابية والمخزن ولفقت لهم التهم زورا واستمر الامر كذلك الى حدود سنة 1970 حيث اضطر محمد الطيب نافع للفرار رغم انفه خارج الوطن هروبا من تحالف القيادة البيروقراطية والمخزن والتي مارست عليه كل أنواع العنف والترهيب ناهيك عن المطاردات من البوليس السري. في المنفى سيتلقى الطيب نافع خبر محاكمته مرتين غيابيا والحكم عليه ب 10 سنوات بمحاكمة مراكش سنة 1971 ثم بالإعدام بمحكمة القنيطرة العسكرية سنة 1973. في نسف السنة أي 1973 سيذوق رفيق دربه مصطفى بحران من نفس الكأس حيث ثم اعتقاله لمدة 11 شهرا بمعتقل “الكوربيس” الذي كان موجودا بمطار انفا القديم آنذاك. جاوره في السجن الحاج علي المانوزي (اب الحسين المانوزي) والشهيد زكرياء محمد العبدي ومناضلين اخرين.
كان ذلكم مختصر للأحداث التي عاشها الرفيقان والذين افترقت بهما السبل الى حدود سنة 1995 بعد عودة الطيب نافع للوطن بعد العفو الشامل، حيت كان مصطفى بحران على راس وفد قام بزيارة رفيق دربه ببيته. هذا الوفد كان يضم ثلة من المناضلين من بينهم المعتقلين السابقين سمحمد عواد “كندا” احمد ارسلان ونعيم صاحب مكتبة بحي بوشنتوف المتر واخرون.
رجع محمد الطيب نافع هاته المرة للغربة بشكل شبه ارادي لارتباطاته العملية والعائلية ليفترق الصديقان مرة اخرى ويتوها عن بعضهما البعض، لكن من الحين لآخر كانت تصل لكلاهما رسائل من الاخر عبر بعض الاصدقاء فحواها ان كلاهما يبحث عن الاخر لكن شاءت الاقدار ان لا يلتقيا. وفي حدود السنة الجارية 2022 شرع محمد نافع عند زيارته لأرض الوطن في البحث عن رفيقه واستطاع ان يحصل على رقم هاتفه عن طريق الدكتور عبد الكريم المانوزي والذي استخرجه من الملف الطبي الخاص بمصطفى بحران بناء على توصية من الفقيد قيد حياته.
اخذ محمد الطيب نافع هاتفه وركب الرقم ليجيبه صوت نسائي
الو شكون؟
هذا بيت مصطفى بحران؟
نعم انا ابنته
انا صديقه محمد الطيب نافع منذ مدة وانا ابحث عنه
عرفتك عمي نافع لكن ابي توفي منذ سنتين “يوم 3 ماي 2020” كان دائما يحدثنا عنك
ااااه لم أكن اعلم للآسف
هاك امي ……
دامت المكالمة بضع دقائق وانتهت بتحديد موعد الزيارة لتقديم العزاء.
انطلقت يوم 25 غشت 2022 رفقة صديقي نافع الى بيت الفقيد وفق الموعد المحدد وفي الطريق كان يسرد لي الأحداث التي عاشها مع رفيق دربه ويردد على مسامعي كل مرة: «للأسف سبقني الموت الى رفيقي لو كان “قياديا” لسمع الكل بموته لكن للأسف لأنه كان مناضلا قاعديا صادقا لم يلتفت له أحد”
وصلنا واستقبلنا بباب البيت من طرف زوجة الفقيد وبنته البكر، ما ان فتح الباب حتى عم جو من الترحاب الممزوج بالحزن ولم يستطع الجميع تمالك نفسه حيث بكى الجميع وترحموا على روح الفقيد.
كان اللقاء فرصة لاسترجاع الذكريات وتعداد مناقب الفقيد الذي تميز بالوفاء والاخلاص لكل اصدقائه ورفاقه ناهيك عن رباطة جأشه واستماته في النضال بصدق والتزام بالمبادئ والاخلاق. أيضا تذكر الجميع رفاق الراحل والمعاناة التي تكبدها المناضلون وأفراد عائلاتهم وكل المقربون فمنهم من اعتقل ومن عذب في المركز السيء الذكر “درب مولاي الشريف”
كان لقاء للوفاء وضد نسيان الذاكرة النضالية لرجال صدقوا والتزموا وأخلصوا. لقاء تداول فيه جزء من الذاكرة السوداء لما سمي بسنوات الرصاص لكن أيضا كان لقاء فرح للطيب نافع ولجميع افراد عائلة الفقيد مصطفى بحران، كان فرحا شديدا ممزوج بنوع من الحزن والتأثر لفقدان الفقيد وأجمع الكل انه لو كان حيا لفرح ايضا. تحت إصرار البنت البكر للفقيد وعن طريق الواتساب تم التواصل مع كل ابناء الفقيد الذين يتواجدون خارج مدينة البيضاء، فجلهم كانوا على علم بعلاقة نافع والفقيد وبتاريخهما النضالي والكفاحي بقطاع الكهرباء.
كان اللقاء اخلاصا لروح الفقيد ومناسبة للترحم عليه واستعادة العديد من الذكريات التي يحفظها نافع وزوجة الفقيد وايضا ابناءه والذين رغم انهم لم يعيشوها لكن كان الفقيد يحكي لهم كل تفاصيلها قيد حياته. انها ذاكرة الفقيد مصطفى بحران المنسية الا من عائلته ورفاقه الأوفياء.
*فاعل جمعوي