نور الدين الطويليع*
بعدما وجد وزير حقوق الإنسان مصطفى الرميد نفسه في قلب العاصفة، نتيجة الانتقادات اللاذعة التي تلقاها عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وحملة الإدانة الواسعة التي طالته بسبب حرمان كاتبته المرحومة “جميلة بشر” التي اشتغلت ربع قرن، مشرفةً على مكتب المحاماة الذي كان يديره، بعد كل هذا، فضل الوزير الاتكاء على والد المعنية بالأمر ليخلصه من عذاب المتابعة الشديد الذي لفحه لهيبه الوطني والدولي، واتسعت ناره لترمي به في محكمة حزبه، ونتساءل هنا:
ـ لماذا فضل مصطفى الرميد الصمت، واتكأ بالمقابل على شهادة والد الضحية؟، هل ستخبو بهذه الخطوة النيرانُ المشتعلة، أم ستزداد اشتعالا؟
ـ هل يمكن عَدُّ هذه الشهادة اختيارا حجاجيا صائبا؟
ـ إلى أي حد أفلح الوالد بحجاجه العاطفي في إلقاء قميص الذنب عن المُحاجَجِ عنه؟
ـ أيسعى وزير حقوق الإنسان بهذه الخطوة إلى إقناع المغاربة ببراءته من هذا الجرم القانوني والأخلاقي، أم يتغيا إسكاتهم اعتمادا على “سلطة القائل” (الأب)؟
بداية لابد من وضع هذا الاختيار الحجاجي “بيان الحقيقة” في سياقه، فهو يأتي في ظل العاصفة المشتعلة التي توشك أن تودي بحياة الوزير السياسية، وتقتله رمزيا من الناحية الأخلاقية، وهو هنا وسيلة استهوائية يروم أصحابها التصدي، بواسطتها، ومن خلالها للذخيرة الحجاجية الحية، اعتمادا على حجة السلطة، أو “سلطة الرمز القائل” التي تختزل الموضوع في ثنائية قريب/ بعيد، فَمُوَقِّع البيان، وفق الغاية الحجاجية المأمولة للمعني بالأمر، هو والد الضحية، والمنتقدون هم عامة الشعب، ولا تربطهم أي قرابة عائلية بها، ووفق حجة “من باب أولى” فمادام الوالد يشهد ب “فضائل” المُتَّهَم، فإن أي حديث يعاكس هذا الحديث ويضاده يعد لاغيا، وهنا يتحول الوالد إلى سلطة في ذاتها، تنتصب برمزيتها العاطفية لتدفع “البلاء” عن المتهَم، وتحسم الموضوع بلغة عاطفية استهوائية تذكرنا بقول عنترة بن شداد :
يَا عَبْلُ خَلِّ عَنْكِ قَوْلَ المُفْتَرِي/ واصْغِي إِلَى قَوْلِ المُحِبِّ المُخْبِرِ
وَخُذِي كَلَامًا صُغْتُهُ مِنْ عَسْجَد/ وَمَعَانِيًا رَصَّعْتُهَا بِالْجَوْهَرِ
فإذا كان عنترة بن شداد قد منح لنفسه سلطة الحبيب الذي لا يُطعن في كلامه، ولا يؤخذ بكلام غيره من العُذَّال المفترين، اتكاء على رمزيته العاطفية ومكانته عند محبوبته “عبلة”، إذا كان الأمر كذلك، فوالد الضحية استند إلى رمزيته الأبوية ليدفع عن الوزير تهمة الاستغلال، وليرفعه مقاما عليا وضعه به في وضع الأب، ووضع ابنته في وضع ابنة الوزير، والمقصد الحجاجي من وراء ذلك يتجاوز التبرئة إلى الإشادة والثناء وفق رؤية تروم إقفال الموضوع، وسد الأفواه المنتقِدة، بخطاب صريح يريد أن يقول بالواضح:
إن مصطفى الرميد بمثابة أب، وبما أنه كذلك، فلا يحق لأحد التدخل في علاقة خاصة تربط بين الأب وابنته، والخلاصة التي انتهى إليها أن هذا “الدفق الأبوي العاطفي” حاجز صلب ضد أي انتقاد، ويحضرنا في هذا السياق قول الشاعر أبي فراس الحمداني:
أَساءَ فَزادَتهُ الإِساءَةُ حُظوَةً/ حَبيبٌ عَلى ما كانَ مِنهُ حَبيبُ
مع فارق واضح يتمثل في اعتراف الشاعر بإساءة المحبوب، وتأكيده أن سلطة الحب تَجُبُّهَا، وإحجام الوالد عن ذلك لأن الاعتراف بالإساءة في هذا السياق يقتل مسعى “أملكة” الوزير، وكل إدراج للكلمة، أو أي من مرادفاتها من شأنه أن يعصف بهذا الرهان الحجاجي.
تقودنا هذه النتيجة إلى البحث عن مزالق هذه الخطوة، وإظهار المغالطات وعناصر السفسطة التي صاحبت خطاب الوالد، أو من خَطَّ للوالد هذه الوثيقة، محاولا تكييف مضامينها مع الظرفية وملابساتها حتى يتسنى لها بلوغ قلوب المتلقين، وإلغاء الانطباع السيء الذي استقر فيها حول شخص الوزير، وفي ما يلي عرض لبعض السفسطات التي عجت بها هذه الوثيقة.
1ـ سفسطة التَّهَرُّب من عبء التدليل: سعى من صاغ هذه الوثيقة إلى تهريب النقاش وتحريفه عن وجهته الصحيحة، وإلى مغالطة المتلقي بكلمات فضفاضة ذات شحنة عاطفية بعيدة كل البعد عن المقام الحجاجي، وموغلة في المثالية للإيهام بصواب الدعوى، والتهرب من مواجهة الرأي الآخر بالحقيقة اليقينية، والأدلة المقنعة، مع أن السياق يخرج عن نطاق هذه المثالية الزائفة، فأن يكون وزير حقوق الإنسان في وضع أب الضحية أو غير ذلك، فهذا لا يعنينا بقدر ما يعنينا الجواب عن سؤال قيام الوزير بأداء ما عليه من مستحقات تجاه مُشَغَّلَتِه، وأولها تسجيلها في صندوق الضمان الاجتماعي، وهذا ما تَمَّ الالتفاف عليه، وإلقاء مسؤوليته على الضحية المتوفاة، مع أن الواقع القانوني يقول عكس ذلك، فالمُشَغِّلُ يتحمل هذه المسؤولية، وهو من يجب أن يصرح بمشغَّلِهِ، وإن لم يفعل فهو مخالف للقانون، ومعرَّضٌ لعقوبات زجرية، ولا يمكن أن يحاجج بفكرة رغبة المعني بالأمر عن الموضوع، ولو أخذنا بمنطق كاتب الوثيقة التجهيلي لتوقفت حكاية الضمان الاجتماعي، ولعمد أرباب العمل إلى الضغط على مشغَّلِيهم لتوقيع إشهادات بالتنازل عن حقوقهم، بما يمكن أن يحول المعامل والمصانع والإدارات إلى حظائر للاستغلال البشع، ويجعل العامل في حكم العبد المملوك…، ونظرا لصفته القانونية فقد وعى المحامي الوزير هذه السفسطة، وأدرك آثارها، لذلك توارى إلى الخلف، وقدم الوالد ليتبناها ويدلي بها بصفتها صادرة عنه شخصيا، وفي هذا تخلص ذكي من تبعات نقد لاذع قد يجر عليه مصائب أخرى لن يتحمل ضغطها الكبير في هذه الظرفية الصعبة بالنسبة إليه، وهو الذي اعتاد الهروب إلى الإمام في قضايا كبيرة اهتز لها الشعب المغربي بلازمة “ما فيراسيش” قبل أن يقع في هذا المطب الذي لا تسعف فيه هذه العبارة.
2ـ سفسطة العاطفة: “تقوم هذه السفسطة على مخاطبة الشخص عواطفَ الناس كي يدفعهم إلى الاعتقاد بصحة الفكرة التي يطرحها”، وتنطلق من فكرة أن “الناس يتأثرون بمشاعرهم أكثر مما يتأثرون بعقولهم”، ولذلك تُستبدَلُ العاطفةُ بالعقل لتحقيق هذا الغرض، وتُسْتَثَارُ مشاعر الناس بطريقة يتم فيها الالتفاف على الحجج والضوابط العقلية، في هذا السياق حرص كاتب الوثيقة على شحنها بعبارات استدعاها من خلالها مجموعة من الأطر الذهنية التي تتوزع بين الأبوة: “أشهد أن الأستاذ مصطفى الرميد كان يعامل الفقيدة رحمها الله كابنته”، والإحسان: “نشكره على كل العناية التي كان يرعى بها ابنتنا قبل مرضها وخلاله”، والثقة: “كانت محل ثقته الكاملة”، هذه الجمل والعبارات وظفت في إطار استراتيجية حجاجية تتأسس على فكرة الانتقاء، فاستدعاء لفظ “الابنة” لتشبيه العلاقة التي يراد تصويرها بين الوزير وكاتبته المتوفاة يروم وضع الأول في صورة الأب، ولا يخفى ما لهذه الكلمة من شحنة عاطفية كبيرة، فالأب في الموروث العالمي رمز إلى الحنان والرأفة وكل القيم النبيلة، وهنا يبرز مسعى كاتب الوثيقة الذي ارتقى بالوزير من دائرة المدنس إلى المقدس، وحرص على تبئير الدائرة الجديدة بفكرة الإحسان، وأكدها بضميمة الثقة، وكل هذا يصب في خانة واحدة سماها شاييم بيرلمان بـ “استراتيجية الحضور”، فصورة الوزير/ الأب/ المحسن/ الواثق أثثت الوثيقة من بدايتها إلى نهايتها تأثيثا غير بريء، يروم محو صورة المُشَغِّل الاستغلالي/ الخارق للقانون/ الهاضم لحقوق عامله التي ارتسمت في أذهان الناس عن وزير حقوق الإنسان الذي غَيَّبَ بذكاء السؤال القانوني في حول موضوع التغطية الاجتماعية، وارتكن إلى إجابة سفسطائية جاهزة وضعت الضحية في صورة الجاني الذي أصر على مخالفة القانون، ورفض التسجيل في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، وفي هذا إساءة ثانية إليها، لأنها قُدِّمَتْ في صورة مواطن سلبي يُعاكس حقه، ويرضى بوضع السخرة، بعيدا عن الإجراءات الإدارية التي تحفظ كرامته، وتصون حقه الإنساني، ومسؤولية هذه الإساءة لا يتحملها الأب الذي يبدو أنه استُدْعي في يوم عطلة أسبوعي للتوقيع فقط، دون أن تخط يمينه سطرا واحدا.
3ـ سفسطة المصادرة على المطلوب: “في هذه السفسطة يتم في المقدمات إدراج النتيجة التي يلزم إقامة الدليل على صدقها، وذلك حتى يتوهم المخاطب أن هذه النتيجة من المقدمات المُسَلَّمَة” ، هكذا، وعوض أن يقيم كاتب الوثيقة الدليل على براءة الوزير من تهمة استغلال كاتبته وهضم حقوقها، قبل أن يخلص إلى النتيجة التي يريد، صادر على النتيجة وجعلها في الواجهة لمغالطة المتلقي واستدراجه إلى شباك الإيهام، فوضع الوزير في صورة الأب كان أولى أن يكون خلاصة بعد مسار استدلالي واضح، لكن غياب الدليل، والمراهنة على السفسطة دفعت كاتب الوثيقة إلى نهج هذا المسار للتغطية على الفقر الحجاجي المنطقي الذي يَسِمُهَا.
4ـ سفسطة السببية الزائفة: أقام كاتب الوثيقة علاقة تَنَاتُج بين المقدمة والخاتمة، واستغل بشكل سيء الحجاج السببي، فبعدما صادر على المطلوب، وابتدأ نتيجة وضعها موضع السبب، انتهى إلى خلاصة بَرَّأَ بواسطتها الوزير من تهمة استغلال مُشَغَّلَتِهِ، وهاجم المنتقدين وأدانهم وتبرأ منهم، ليقع بذلك في سفسطة أخرى تُسمى “سفسطة المنحدر الزلاق” التي تتجلى في الإيهام بحقائق لا تستند إلى أي حجة أو دليل، فبراءة الوزير وإخلاء مسؤوليته ليست من حق الوالد الذي أريد له أن يؤدي دور المحامي والقاضي في الوقت نفسه، وإنما الأمر بيد المؤسسات المختصة، فهي وحدها التي تملك هذه السلطة، وإدانة المنتقدين والتبرؤ منهم كان أولى بكاتب الوثيقة ألا يورط الوالد فيه، لأن من تحدثوا في الموضوع مواطنون، وقد تطرقوا إليه ليس دفاعا عن كاتبة الوزير المرحومة “جميلة بشر”، ولكن من باب مفارقة خرق القانون من قِبَلَ مُحَام، وناشط حقوقي، ووزير سابق للعدل والحريات، ووزير حالي لحقوق الإنسان، وهذه “النياشين” تستفز الخَمُول، وتستحثه على التساؤل عن حيثيات هذه النكسة التي ألقت بظلالها خارج الحدود.
عود على بدء: في ظل وضعية هذه سماتها نسوق، ودون تعليق، هذه الواقعة: ترافع أبو الأسود الدؤلي وزوجُهُ في شأن كفالة الولد أمام معاوية، فبالغ أبو الأسود في السجع، فقال له معاوية: “أردد على المرأة ولدها، فهي أحق به منك، ودعني من سجعك”.
* فاعل إعلامي وتربوي