منذ اعتلاء جلالة الملك محمد السادس العرش عام 1999، تبنّى المغرب مقاربة جديدة في التعامل مع مفهوم الأمن الاستراتيجي، ترتكز على التوازن بين الحزم والهدوء، وعلى توظيف الذكاء السياسي والحكمة بدل الانخراط في منطق المواجهة المباشرة أو التصعيد غير المحسوب، فقد استطاع المغرب في عهد جلالة الملك محمد السادس أن يُعيد تشكيل مفهوم الأمن بما يتجاوز البُعد العسكري التقليدي، ليمتد إلى أبعاد أوسع تشمل الأمن الغذائي، الطاقي، السيبراني، والمجتمعي، في تفاعل مع السياقات الإقليمية والدولية المتغيرة.
ويعتبر الموقع الجيوسياسي الحساس للمغرب، كحلقة وصل بين إفريقيا وأوروبا، والمطل على أهم الممرات البحرية العالمية، جعل من الأمن مسألة مركزية في السياسات الوطنية، ومع ذلك، لم يسعَ المغرب إلى تأمين حدوده فقط عبر الإنفاق العسكري أو التحالفات الأمنية، بل اعتمد سياسة هادئة ولكن فاعلة، جعلت منه شريكًا موثوقًا في قضايا مكافحة الإرهاب، والهجرة غير الشرعية، والجريمة المنظمة، من دون السقوط في فخ التبعية أو التورط في نزاعات خارجية.
وقد عززت السياسة الملكية هذا التوجه من خلال تحديث الأجهزة الأمنية والاستخباراتية، ودعم التنسيق بين مختلف الفاعلين الأمنيين، مع الحفاظ على طابع السيادة في اتخاذ القرار.
وفي الوقت نفسه، استثمر المغرب في ترسيخ الأمن الداخلي عبر مشاريع التنمية البشرية، ومحاربة الفقر والهشاشة، وتحقيق نوع من التماسك الاجتماعي، باعتباره شرطًا أساسيًا للاستقرار.
فالأمن، في رؤية جلالة محمد السادس، ليس مجرد غياب للتهديدات، بل هو بناء متواصل لبيئة آمنة تُشرك المواطن وتوفر له شروط العيش الكريم.
وفي ظل التوترات التي تعرفها المنطقة المغاربية والساحل الإفريقي، اختار المغرب أن يلعب دور الوسيط الهادئ، القادر على استيعاب التحولات وتقديم المبادرات بدل الاصطفاف في محاور متصارعة.
هذا الدور تعزز بتنامي الحضور المغربي في إفريقيا، سواء عبر المبادرات الاقتصادية أو التعاون الأمني والتنموي، حيث تحوّل المغرب إلى فاعل استراتيجي في استقرار المنطقة، دون صخب أو استعراض.
كما أن تدبير المغرب لملف الصحراء المغربية يُظهر بدوره هذا التوجه نحو بناء الأمن عبر الحكمة، فالمملكة لم تتخلّ عن موقفها الثابت بخصوص وحدتها الترابية، لكنها في المقابل، تبنّت طرحًا واقعيًا عبر مقترح الحكم الذاتي، الذي لاقى دعما متزايدا على المستوى الدولي، في مقابل تعنّت الأطراف الأخرى، هذا التعاطي العاقل مع الملف، عزّز صورة المغرب كدولة مسؤولة، تعرف كيف تدير صراعاتها بذكاء استراتيجي دون الانجرار إلى التصعيد.
وفي السنوات الأخيرة، ومع تصاعد التهديدات السيبرانية والهجمات الرقمية، أدرك المغرب أهمية الأمن الرقمي كجزء من أمنه الاستراتيجي، فاستثمر في البنية التحتية الرقمية، وعزّز من قدرات مؤسساته السيادية في هذا المجال، وهو نفس النهج الذي اتبعه في الأمن الصحي، بعد جائحة كوفيد-19، حيث ظهرت قدرته على التعامل مع الأزمات الكبرى بمرونة وسرعة.
إن الأمن الاستراتيجي في المغرب اليوم هو نتاج رؤية ملكية بعيدة المدى، تُدير التحديات بأدوات ناعمة أحيانًا، وبحزم محسوب أحيانًا أخرى، هي سياسة لا تسعى إلى فرض الهيبة بالقوة، بل ببناء الثقة داخليًا وخارجيًا، ولعلّ ما يميز هذه المرحلة هو هذا التوازن الفريد بين الصرامة والهدوء، بين الحضور القوي والإيقاع المتزن، بين المصالح الوطنية والانفتاح على الشراكات الدولية، إنها باختصار، سياسة بناء الهدوء بقوة الحكمة.