يشهد المغرب خلال السنوات الأخيرة دينامية اقتصادية متصاعدة في جذب الاستثمارات الصناعية الأجنبية، وعلى رأسها الاستثمارات الصينية التي أصبحت تشكّل إحدى ركائز التوجه المغربي نحو تنويع الشركاء الدوليين وتثبيت موقعه كمنصة صناعية ولوجستية في القارة الإفريقية، هذا التوجه يندرج ضمن رؤية استراتيجية تقوم على جعل المغرب جسراً بين الصين وإفريقيا، مستفيداً من موقعه الجغرافي الاستثنائي، واستقراره السياسي، وبنياته التحتية المتطورة، لاسيما في ما يخص الموانئ، المناطق الصناعية، وشبكات النقل المتقدمة.
توطين الصناعات الصينية في المغرب لا يأتي من فراغ، بل هو نتاج إرادة سياسية واضحة، ترجمتها اتفاقيات الشراكة الموقعة بين البلدين، وفي مقدمتها مذكرة التفاهم التي انضم من خلالها المغرب إلى مبادرة “الحزام والطريق” الصينية. وقد أتت هذه الخطوة لتوسيع آفاق التعاون نحو مشاريع استراتيجية، من أبرزها مشروع “مدينة محمد السادس طنجة-تيك”، الذي يُنتظر أن يكون أحد أكبر الأقطاب الصناعية ذات التوجه التصديري نحو أوروبا وإفريقيا، ويستقطب عشرات الشركات الصينية في مجالات متعددة، خاصة الصناعات الإلكترونية، الميكانيكية، السيارات والطاقة المتجددة.
إن اختيار الصين للمغرب كأرضية لتوطين صناعاتها يتجاوز الاعتبارات الاقتصادية إلى ما هو جيو-استراتيجي، فالمغرب يُعد من أكثر البلدان الإفريقية اندماجاً في سلاسل القيمة العالمية، كما يتمتع بوضع متقدم مع الاتحاد الأوروبي، وشبكة اتفاقيات للتبادل الحر تشمل أكثر من خمسين دولة، مما يجعل منه بوابة لولوج أسواق ضخمة تتجاوز المليار مستهلك. يضاف إلى ذلك أن بيئة الأعمال في المغرب أصبحت أكثر تنافسية، بفعل الإصلاحات التشريعية والجبائية، والتسهيلات الممنوحة للمستثمرين، ما يمنح الصين حليفاً موثوقاً على مستوى جنوب المتوسط.
من جهة أخرى، يستفيد المغرب من هذا التوطين الصناعي في تقوية نسيجه الإنتاجي ونقل التكنولوجيا، وخلق فرص الشغل لفائدة اليد العاملة المؤهلة، خاصة في المناطق الصناعية الجديدة التي تعرف نمواً مطرداً. كما أن الصناعات الصينية، بما تمتلكه من خبرة في مجالات الإنتاج منخفض التكلفة وفعالية التصنيع، تعد فرصة لتسريع وتيرة التصنيع المحلي، مع ما يرافق ذلك من تعزيز للابتكار وتطوير سلاسل الإنتاج المرتبطة بالصادرات.
إن توطين الصناعات الصينية في المغرب يعد نموذجا لتوازن المصالح بين بلد صاعد يبحث عن موطئ قدم أقوى في السوق الإفريقية، ودولة إفريقية طموحة تسعى لتثبيت موقعها في قلب التحولات الاقتصادية العالمية. وهو خيار ينسجم تماماً مع الرؤية المغربية الرامية إلى إرساء نموذج تنموي جديد يقوم على التصنيع الموجه للتصدير، وجذب التكنولوجيا، وتثمين موقع المغرب في التقاطعات التجارية العالمية، في أفق أن يتحول إلى مركز صناعي إفريقي بامتياز.