مفهوم الدبلوماسية لدى الكابرانات.. حصانة لارتكاب الجرائم وخرق القوانين

مرة أخرى، تطفو على سطح العلاقات الفرنسية الجزائرية أزمة دبلوماسية حادة، تكشف أكثر من مجرد سوء تفاهم مؤقت. إنها مرآة تُظهر التناقض الصارخ بين نظام يعيش على وهم السيادة المطلقة، ودولة ديمقراطية تحكمها المؤسسات والقوانين.

قصة الخلاف بدأت عندما أوقفت السلطات الفرنسية موظفًا في القنصلية الجزائرية بباريس، في إطار تحقيق يتعلق باختطاف المعارض الجزائري أمير بوخرص المعروف باسم “أمير دي زاد”. فجاء الرد الجزائري عنيفًا، متشنجًا، أقرب إلى بيان تعبوي منه إلى خطاب دبلوماسي، حيث طردت الجزائر 12 موظفًا فرنسيًا، ورفعت شعار السيادة الوطنية، وكأنها تقول: “نحن نملك الحصانة ضد المحاسبة، حتى على أراضي الآخرين”.

لكن ما تراه الجزائر “إهانة” تراه فرنسا ببساطة إجراءً قضائيًا عادياً في دولة تُحترم فيها استقلالية القضاء.  إن الأمر لم يكن سوى تذكير بأن الحصانة الدبلوماسية ليست درعًا يُستعمل للتغطية على الجرائم، ولا بطاقة خروج من السجن …

في بيانها، لم تُخف الخارجية الجزائرية غضبها، بل اتهمت وزير الداخلية الفرنسي بالسعي للإهانة المتعمدة، وبالافتقار للحد الأدنى من الحس السياسي. لكن السؤال الحقيقي هنا ليس عن نوايا فرنسا، بل عن تصور النظام الجزائري للعلاقات الدولية: هل السيادة تعني الصراخ والتهديد حين تُكشف أوراقك؟ وهل الحصانة القنصلية تفويض للخرق العلني للقانون؟ وهل الحصانة الدبلوماسية تعفي صاحبها من المحاسبة عند اقتراف أفعال إجرامية يعاقب عليها القانون؟

الجزائر لا تحتج لأن موظفًا اعتُقل ظلمًا، بل لأنها تفترض أن إعادة الدفء للعلاقات مع باريس تعني ضمنًا “عفا الله عما سلف” ولا محاسبة لما يرتكب من جرائم وأفعال خارج القانون. أي أنها تحلم بشراكة خالية من المساءلة، وهو وهم لا يسكن إلا في عقل أنظمة لم تتصالح بعد مع فكرة الدولة القانونية.

ما يزيد من عبثية المشهد هو أن الجزائر، التي لطالما اشتكت من “تدخل فرنسا في شؤونها الداخلية”، تريد اليوم التدخل في سير العدالة الفرنسية بحجة “الاعتداء على السيادة”. تناقض فاضح بين الرغبة في الإفلات من المحاسبة والعقاب، من جهة، والحق في التأثير على مؤسسات الآخرين ومحاسبتهم من جهة أخرى!

في فرنسا، القضاء لا يخضع لهواتف الوزراء، ولا ينتظر التعليمات من قصر الإليزيه. أما في الجزائر، فالقضاء للأسف لا يزال يعيش تحت رحمة التعليمات الأمنية والعسكرية، ويتم استعماله كعصا لضرب المعارضين والخصوم، بل وحتى المواطنين العاديين.

تاريخ النظام الجزائري مع “الدبلوماسية الموازية” ليس جديدًا. فلطالما استُخدم ممثلوه في الخارج لتصفية الحسابات السياسية، أو لدعم شبكات مشبوهة، أو للتجسس على المعارضين. ما وقع في فرنسا ليس حادثًا معزولًا، بل تتويج لسلوك ممنهج يرى في الحقيبة الدبلوماسية وسيلة لنقل الأوامر، لا لتمثيل دولة، ويعتبر الدبلوماسيين وكل الجيوش الملعقة بهم فوق المحاسبة القانونية وورقة للإفلات من العقاب.

لكن الفضيحة هذه المرة وقعت فوق أرضٍ لا تتسامح مع التلاعب: الجمهورية الفرنسية، التي قد تكون براغماتية في سياساتها، وقد نختلف في تقديرات سياساتها، لكنها لا تعبث حين يتعلق الأمر بالقانون.

وتكمن المعضلة الكبرى في أن النظام الجزائري لا يزال ينظر للعالم بعقلية ستينات القرن الماضي، ويتعامل مع الدول الأخرى كما يتعامل مع الداخل من خلال التعليمات، والتهديدات، والإعلام المسيّر، وسردية المظلومية، لكنه يصطدم كل مرة بجدار الحقيقة: الخارج لا يُدار بتلك الطريقة والعالم تغير من حول الكابرانات الذين لا يزالون يعتقدون أن ريع النفط والغاز ورفع شعارات “فلسطين ظالمة أو مظلومة” و”حق الشعوب في تقرير مصيرها” وهلمّ شعارات فارغة، قد يعفيهم من المحاسبة والمتابعة القانونية.

إن فرنسا ليست ولاية جزائرية يمكن إخضاعها، ولا قنصلية يمكن إسكاتها. إنها دولة مؤسسات تفصل بين القضاء والسياسة، وتحاسب كل من يخرق القانون، مهما كان منصبه أو صفته.

إن هذه الأزمة، في جوهرها، ليست دبلوماسية، إنها سياسية بامتياز. إنها تكشف عن نظام مأزوم، عاجز عن تبرير الاختناق الداخلي، والأزمات المتكررة التي يغرق فيها، لذالك يبحث عن معارك جانبية ليخفي هشاشته البنيوية. فبدلًا من مواجهة تآكل شرعيته، واحتقان الشارع، وتراجع الحريات، فإنه يلوّح بورقة “الكرامة الوطنية”، كمن يصرخ في وجه المرآة. لكن هذه اللعبة لم تعد تنطلي على أحد. فمن يريد الاحترام في الخارج، عليه أولًا أن يحترم شعبه. ومن يطالب بالمعاملة الندية، يجب أن يبني مؤسسات تحترم القانون. أما التهديد بالمثل، فمجرد صدى أجوف في عالم لم يعد يقيم وزنًا للأقوال، بل للأفعال.

مقالات ذات الصلة

15 أبريل 2025

إحداث 973 مقاولة بجهة مراكش آسفي

15 أبريل 2025

وزير الخارجية الفرنسي: إجراء الجزائر طرد 12 دبلوماسيا لن يمر دون عقاب

15 أبريل 2025

“ساوند إنرجي” تعزز موقعها المالي بفضل تقدم مشروع تندرارة واستعدادات مرحلة الإنتاج

15 أبريل 2025

جلالة الملك محمد السادس يتابع شخصيا تحضيرات مونديال 2030 لضمان تنظيم تاريخي للمغرب